وقد ثبت في الصحيحين عن أنَس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوا على الذين قتلوهم ويلعنهم. قال أنَس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: "أن بلِّغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا".
ثم قال تعالى: {يستبشون بنعمة من اللّه وفضل وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم، وقلما ذكر اللّه فضلاً ذكر به الأنبياء وثواباً أعطاهم اللّه إياه إلا ذكر اللّه ما أعطى المؤمنين من بعدهم.
وقوله تعالى: {الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح} هذا كان يوم (حمراء الاسد) وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذاهب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلداً، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه لما سنذكره، فانتذب المسلمون على ما بهم ما الجراح والإثخان طاعة للّه عزّ وجلّ ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم . وعن عكرمة أنه: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا فسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا (حمراء الأسد) فقال المشركون: نرجع من قابل، فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكانت تعد غزوة فأنزل اللّه تعالى: {الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}.
قال محمد بن إسحاق، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان قد شهد أُحداً، قال: شهدنا أُحداً مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنا وأخي ورجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي: أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكنت أيسر جراحاً منه؛ فكان إذا غلب حملته عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وقال البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها: {الذي استجابوا للّه والرسول} الآية، قلت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم (الزبير) و (أبو بكر) رضي اللّه عنهما لما أصاب نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: "من يرجع في أثرهم"، فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير. وروي عن عروة قال، قالت لي عائشة إن أباك من الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وكانت وقعة أُحُد في شوّال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم واشتد عليهم الذي اصابهم، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال: "إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتىعام مقبل"، فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال: {إن الناس قد جمعوا لكم} وقال الحسن البصري في قوله: الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح} إن أبا سفيان واصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف اللّه في قلبه الرعب، فمن ينتدب في طلبه"، فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم وابو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتبعوهم فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم يطلبه فلقي عيراً من التجار فقال: ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت جموعاً وأني راجع إليهم، فجاء التجار فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "حسبنا اللّه ونعم الوكيل" فأنزل اللّه هذه الآية.
وقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً} الآية، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما أكترثوا لذلك، بل توكلوا على اللّه واستعانوا به، {وقالوا حسبنا اللّه نعم الوكيل}، وقال البخاري، عن ابن عباس: {حسبنا اللّه ونعم الوكيل} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى اللّه عليه وسلم حين قال لهم الناس {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل} وفي رواية له: كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في الناس: {حسبنا اللّه ونعم الوكيل} وعن أبي رافع أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم فقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية.
وفي الحديث: "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل" (رواه ابن مردويه وقالك حديث غريب من هذا الوجه) وقد قال الإمام أحمد، عن عوف ابن مالك أنه حدثهم، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبيَ اللّه ونعم الوكيل، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "ردوا عليّ الرجل" فقال: "ما قلت؟" قال: قلت حسبي اللّه ونعم الوكيل"، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : "إن اللّه يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي اللّه ونعم الوكيل".
(يتبع...)
(تابع... 1): 169 - ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم... ...
قال تعالى: {فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء} أي لما توكلوا على اللّه كفاهم ما أهمهم، ورد عنهم بأس ما اراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم: {بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء} مما أضمر لهم عدوهم، {واتبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم}. عن ابن عباس في قوله اللّه : فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل}، قال (النعمة) أنهم سلموا، و (الفضل) أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه (رواه البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس) وقال مجاهد في قوله اللّه تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} قال هذا أبو سفيان قال لمحمد صلى اللّه عليه وسلم موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فقال محمد صلى اللّه عليه وسلم : "عسى"، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً فوافقوا السوق فيها فابتاعوا، فذلك اللّه عزّ وجل: {فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء} الآية، قال: هي غزوة بدر الصغرى (أخرجه ابن جرير عن مجاهد.)
ثم قال تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال اللّه تعالى: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} إذا سوَّل لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجأوا إليَّ فإني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: {أليس اللّه بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه} وقال تعالى: {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً}، وقال تعالى: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}، وقال: كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز}، وقال: {ولينصرن اللّه من ينصره}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللّه بنصركم} الآية، وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} والآيات في ذلك كثيرة.